حوار مع صديقي الملحد للدكتور مصطفي محمود(3)

حوار مع صديقي الملحد للدكتور مصطفي محمود(3)

الفصل الثاني عشر

القرآن لا يمكن أن يكون مؤلفاً

قلت لصديقي :
ربما كان حديث اليوم عن لمحات العلم في القرآن أكثر إثارة لعقلك العلمي من جلستنا السابقة..
فما كان الفلك الحديث ، ولا علوم الذرّة ، ولا علوم البيولوجيا والتشريح معروفة حينما نزلت الآيات
الكونية في القرآن منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة لتتكلم عن السماوات والأرض والنجوم والكواكب،وخلق الجنين وتكوين الإنسان بما يتفق مع أحداث العلوم التي جاء بها عصرنا.

ولم يتعرض القرآن لهذه الموضوعات بتفصيل الكتاب العلمي المتخصص ، لأنه جاء في المقام الأول كتاب
عقيدة ومنهج وتشريع..
ولو أنه تعرض لتلك الموضوعات بتفصيل ووضوح لصدم العرب بما لا يفهمونه .. ولهذا لجأ إلى أسلوب
الإشارة واللمحة والومضة لتفسرها علوم المستقبل وكشوفه بعد ذلك بمئات السنين .. وتظهر للناس جيلاً
بعد جيل كآيات ومعجزات على صدق نزول القرآن من الله الحق..
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } 53/ سورة فصلت..
لأنهم لم يكتفوا بشهادة الله على كتابه .. فأصبح من الضروري أن نريهم ذلك بالآيات الكاشفة..
هكذا يقول الله في كتابه..
وما زال القرآن يكشف لنا يوماً بعد يوم مزيداً من تلك الآيات العجيبة .. وحول كروية الأرض جاءت هذه الآيات الصريحة التي تستخدم لفظ التكوير لتصف انزلاق الليل والنهار كنصفي كرة :
{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } 5/ سورة الزمر
ثم الآية التي تصف دحو الأرض..
{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } 30 سورة النازعات
ودحا هي الكلمة الوحيدة في القاموس التي تعني البسط والتكوير معاً .. والأرض كما هو معلوم مبسوطة في
الظاهر ومكورة في الحقيقة ، بل هي أشبه بالدحية ” البيضة ” في تكويرها..
ثم نقرأ إشارة أخرى صريحة عن أن الجبال تسبح في الفضاء ، وبالتالي فالأرض كلها تسبح بجبالها حيث هي والجبال كتلة واحدة :
{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّالسَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } 88 /
سورةالنمل
فالجبال التي تبدو جامدة ساكنة هي في الواقع سابحة في الفضاء .. وتشبيه الجبال بالسحب فيه لمحة أخرى
عن التكوين الهش للمادة .. التي نعرف الآن أنها مؤلفة من ذرّات ، كما أن السحب مؤلفة من قطيرات.
ثم الكلام عن تواقت الليل والنهار بدون أن يسبق أحدهما الآخر من مبدأ الخلق إلى نهايته.
{لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } 40/ سورة يـس
إشارة أخرى إلى كروية الأرض .. حيث بدأ الليل والنهار معاً وفي وقت واحد منذ بدء الخليقة كنصفي كرة
ولو كانت الأرض مسطحة لتعاقب النهار والليل الواحد بعد الآخر بالضرورة.

ثم تأتي القيامة والأرض في ليل ونهار في وقت واحد كما كانت في البدء.
{حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ } 24 / سورة يونس
وفي قوله تعالى ليلاً أو نهاراً .. تأكيد لهذا التواقت الذي لا تفسير له إلا أن نصف الأرض محجوب عن الشمس ومظلم ، والآخرمواجه للشمس ومضيء بحكم كونها كروية ، ولو كانت مسطحة لكان لها في كل وقت وجه واحد ، ولما صح أن نقول : { وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } 40/ سورة يـس
ثم تعدد المشارق والمغارب في القرآن فالله يُوصَف :
{بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ } 40/ سورة المعارج
{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } 17/ سورة الرحمن
ولو كانت الأرض مسطحة لكان هناك مشرق واحد ومغرب واحد ، يقول الإنسان لشيطانه يوم القيامة :
{يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ } 38 / سورة الزخرف
ولا تكون المسافة على الأرض أبعد ما تكون بين مشرقين إلا إذا كانت الأرض كروية..
ثم الكلام عن السماء بأن فيها مسارات ومجالات وطرقاً :
{وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ } 7 / سورة الذاريات
والحبك هي المسارات..
{وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ } 11/ سورة الطارق
أي أنها ترجع كل ما يرتفع فيها إلى الأرض .. ترجع بخار الماء مطراً.. وترجع الأجسام بالجاذبية الأرضية..

وترجع الأمواج اللاسلكية بانعكاسها من طبقة الأيونوسفير .. كما ترجع الأشعة الحرارية تحت الحمراء
معكوسة إلى الأرض بنفس الطريقة فتدفئها في الليل..
وكما تعكس السماء ما ينقذف إليها من الأرض كذلك تمتص وتعكس وتشتت ما ينقذف إليها من العالم
الخارجي ، وبذلك تحمي الأرض من قذائف الأشعة الكونية المميتة ، والأشعة فوق البنفسجية القاتلة..
فهي تتصرف كأنها سقف..
{وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا } 32 / سورةالأنبياء
{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } 47 / سورة الذاريات
وهو ما يعرف الآن باسم تمدد الكون المطرد..
وكان مثقال الذرة يعرف في تلك الأيام بأنه أصغر مثقال، وكانت الذرة توصف بأنها جوهر فرد لاينقسم، فجاء القرآن ليقول بمثاقيل أصغر تنقسم إليها الذرة .. وكان أول كتاب يذكر شيئاً أصغر من الذرة :
{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ } 3 / سورة سبأ

كل هذه لمحات كاشفة قاطعة عن حقائق مذهلة مثل كروية الأرض ، وطبيعة السماء والذرة..
وهي حقائق لم تكن تخطر على بال عاقل أو مجنون في ذلك العصرالبائد الذي نزل فيه القرآن..
ثم بصيرة القرآن في تكوين الإنسان وكلامه عن النطفة المنوية وانفرادها بتحديد جنس المولود :
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى . مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } 45 / 46 سورة النجم
وهي حقيقة بيولوجية لم تُعرف إلاّ هذا الزمان .. ونحن نقول الآن إن رأس الحيوان المنوي هو وحده الذي يحتوي على عوامل تحديد الجنس Sex Determination Factor .
وتسوية البنان بما فيه من رسوم البصمات التي أوردها الله في مجال التحدي عن البعث والتجسيد :
{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ . بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } 3 / 4 سورة القيامة
بل سوف نجسد حتى ذلك البنان ونسويه كما كان .. وفي ذلك لفتة إلى الإعجاز الملحوظ في
تسوية البنان بحيث لايتشابه فيه اثنان..
وأوهن البيوت في القرآن هو بيت العنكبوت.. لم يقل الله خيط العنكبوت بل قال بيت العنكبوت..
وخيط العنكبوت كما هو معلوم أقوى من مثيله من الصلب أربع مرات .. إنما الوهن في البيت
لا في الخيط .. حيث يكون البيت أسوأ ملجأ لمن يحتمي فيه .. فهو مصيدة لمن يقع فيه من الزوار الغرباء ..
وهو مقتل حتى لأهله .. فالعنكبوت الأنثى تأكل زوجها بعد التلقيح .. وتأكل أولادها عند الفقس، والأولاد يأكل بعضهم بعض.
إن بيت العنكبوت هو أبلغ مثال يضرب عن سوء الملجأ وسوء المصير .. وهكذا حال من يلجأ لغير الله .. وهنا بلاغة الآية :
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْكَانُوا يَعْلَمُونَ } 41/ سورة العنكبوت
وجاءت خاتمة الآية عبارة .. ( لو كانوايعلمون ) .. إشارة إلى أنه علم لن يظهر إلا متأخراً ..
ومعلوم أن هذه الأسرارالبيولوجية لم تظهر إلا متأخرة .. كذلك نجد في سورة الكهف..
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } 25/ سورةالكهف
ونعرف الآن أن ثلاثمائة سنة بالتقويم الشمسي تساوي ثلاثمائة وتسعاً بالتقويم القمري باليوم والدقيقة

والثانية..

وفي سورة مريم يحكي الله تبارك وتعالى عن مريم وكيف جاءها المخاض فأوت إلى جذع النخلة وهي تتمنى الموت، فناداها المنادي أن تهز بجذع النخلة وتأكل ما يتساقط من رطب جنى :
{فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا . فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا . وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا } 23/26 سورة مريم
ولمـاذا الرطـب ؟!!
إن أحدث بحث علمي عن الرطب يقول : إن فيه مادة قابضة للرحم تساعد على الولادة ، وتساعد على
منع النزيف بعد الولادة ، مثل مادة Oxytocin ، وأن فيه مادة ملينة .. ومعلوم طبياً أن الملينات النباتية
تفيدفي تسهيل وتأمين عملية الولادة بتنظيفها للقولون..
إن الحكمة العلمية لوصف الرطب وتوقيت تناول الرطب مع مخاض الولادة فيه دقة علمية واضحة.
هذه الأمثلة من الصدق العلمي والصدق المجازي والصدق الحرفي هو ما أشار إليه الله سبحانه واصفاً القرآن بأنه : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } 42/ سورة فصلت
وبأنه : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } 82/ سورة النساء
اختلافاً بين الآيات وبين بعضها بمعنى تناقضها .. واختلافاً عن الحقائق الثابتة التي سوف تكشفها العلوم..
وكلا الاختلافين نجده دائماً في الكتب المؤلفة .. ولهذا يحرص المؤلف على أن يضيف أو يحذف أو يعدل كلما أصدر طبعة جديدة من كتبه .. ونرى النظريات تتلو بعضها البعض مكذبة بعضها البعض .. ونرى
المؤلف مهما راعى الدقة يقع في التناقض .. وهي عيوب لانجدها في القرآن.
وهو بعد ذلك معجزة ، لأنه يخبرك عن ماض لم يؤرخ ويتنبا بمستقبل لم يأت..
وقد صدقت نبوءات القرآن المتعددة :
عن انتصار الروم بعد هزيمتهم :
{غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ َ} 2/ 4 سورة الروم
و” بضع ” في اللغة هي ما بين ثلاث وتسع .. وقد جاء انتصار الروم بعد سنين.
وعن انتصار بدر :
{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} 45/ سورةالقمر
وعن رؤيا دخول مكة :
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْوَمُقَصِّرِينَ } 27/ سورة الفتح
وقد كان..
وما زلت في القرآن نبوءات تتحقق أمام أعيننا .. فهذا إبراهيم يدعو ربه:
{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَفَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } 37/ سورة إبراهيم
لقد دعا بالرزق لهذا الوادي الجديب..
ثم جاء وعد الله لأهل مكة بالرخاء والغنى حينما أمرهم بمنع المشركين من زيارة البيت فخافوا البوارالاقتصادي والكساد ، ” وكان أهل مكة يعتمدون في رواجهم على حج البيت
فقال ليطمئنهم :

{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } 28/ سورة التوبة
وهو وعد نراه الآن يتحقق أمامنا في البترول الذي يتدفق من الصحراء بلا حساب وترتفع أسعاره
في جنون يوماً بعد يوم .. ثم في كنوز اليورانيوم التي تخفيها تلك الصحاري بما يضمن لها الرخاءإلى نهاية الزمان..

ثم نرى القرآن يحدثنا عن الغيب المطلسم في أسرارالجن والملائكة مما لم يكشف إلاّ لقلة منالمخصوصين من أهل التصوف .. فإذا رأي هؤلاء فهم لا يرون إلا ما يوافق كلمة القرآن..
وإذا طالعوا لا يطالعون إلا مايطابق أسراره.

ثم هو يقدم لنا الكلمة الأخيرة في السياسة والأخلاق ، ونظم الحكم ، والحرب والسلم ، والاقتصادوالمجتمع ، والزواج والمعاشرة ، ويشرع لنا من محكم الشرائع ما يسبق به ميثاق حقوق الإنسان..
كل ذلك في أسلوب منفرد وعبارة شامخة وبنيان جمالي وبلاغي هو نسيج وحده في تاريخ اللغة.

سألوا ابن عربي عن سر إعجاز القرآن فأجاب بكلمة واحدة هي : ” الصدق المطلق” ..
فكلمات القرآن صادقة صدقاً مطلقاً ، في حين أقصى ما يستطيعه مؤلف هو أن يصل إلى صدق نسبي، وأقصى ما يطمع فيه كاتب هو أن يكون صادقاً حسب رؤيته .. ومساحة الرؤية دائماً محدودة ومتغيرة من عصر إلى عصر .. كل واحد منا يحيط بجانب من الحقيقة وتفوته جوانب ، ينظر من زاوية وتفوته زوايا..
وما يصل إليه من صدق دائماً صدق نسبي.. أما صاحب العلم المحيط والبصر الشامل فهو الله وحده..
وهو وحده القادر على الصدق المطلق .. ولهذا نقول على القرآن إنه من عند الله ، لأنه أصاب الصدق المطلق في كل شيء.

سألوا محمداً عليه الصلاة والسلام عن القرآن فقال :
“فيه نبأ ما قبلكم ، وفصل ما بينكم ، وخبر ما بعدكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ،وهو الذكر الحكيم ،وهو حبل الله المتين ، وهو الصراط المستقيم ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو الذي لا تلتبس به الألسن ، ولا تزيغ به العقول ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه” ..

عن انفجار شمسنا ونهاية الحياة على الأرض وقيام القيامة يقول ربنا في سورة الرحمن الآيات 37 إلى 44 :
{فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ . فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ . فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } سورة الرحمن

وتأتينا علوم الفلك الآن وبعد ألف وأربعمائة سنة من نزول القرآن .. بأن هذه نهاية النجوم التي تملأ السماء بألوانها المبهرة .. بل ويطلق الفلكيون على بعض هذه النجوم المنفجرة اسم Rosetta أي وردة..
من أي مصدر جاءت هذه النبوءات للرسول منذ أكثرمن ألف وأربعمائة عام..
إلا أن تكون من رب الكون نفسه .. ويستطيع أي قارئ أن يرى هذه العجائب على الانترنت موقع NASA بابAstronomical picture of the day بعنوان Cats eye

وهذا كلامهم وليس كلامنا..
وهذا هو كتابنا يا صديقــي..
ولهذه الصفات مجتمعة لا يمكن أن يكون مؤلفاً..

الفصل الثالث عشر

شكوك

قال صاحبي:
– تقول إن القران لا يتناقض مع نفسه فما بالك بهذه الآية: “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” 39- الكهف
والآية الأخرى التي تنقضها: “وما تشاءون إلا أن يشاء الله”30- الإنسان
ثم نجد القرآن يقول عن حساب المذنبين إنهم سوف يسألون: “ستكتب شهادتهم ويسألون”19- الزخرف
“وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون”44- الزخرف
ومرة أخرى يقول: “ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون”78- القصص
وأنهم سوف يعرفون بسيماهم:
“فيؤخذ بالنواصى والأقدام” 41- الرحمن
ومرة يقول إنه لا احد سوف يشد وثاق المجرم.
“ولا يوثق وثاقه أحد”26- الفجر
بمعنى أن كل واحد سوف يتكفل بتعذيب نفسه.
“كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا” 14- الإسراء
ومرة يقول:
“ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه”32- الحاقة
قلت له:
هذه ليست تناقضات.. ولنفكرفيها معا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. آية صريحة تشير إلى حرية العبد واختياره.. ولكن هذه الحرية لم نأخذها من الله غصبا وغلابا.. وإنما أعطاها إيانا بمشيئته.. فتأتي الآية الثانية لتشرح ذلك فتقول:
“وما تشاءون إلا أن يشاء الله “30- الإنسان.
أي أن حرية العبد ضمن مشيئة الرب وليست ضدها.. أي أن حرية العبد يمكن أن تناقض الرضا الإلهي فتختار المعصية ولكنها لا يمكن أن تناقض المشيئة.. فهي تظل دائما ضمن المشيئة، ولو خالفت الرضا.. وهي نقطة دقيقة.. وقلنا إن التسييرالإلهي هو عين التخيبر، لأن الله يختار للعبد من جنس نيته وقلبه.. ومعنى ذلك أنه يريد للعبد نفس ما أراد العبد لنفسه بنيته واختيار قلبه… أي أن العبد مسير إلى ما اختار.. ومعنى ذلك أنه لا إكراه و أنه لا ثنائية ولا تناقض.. وأن التسيير هو عين التخيير. وهي مسألة من أدق المسائل في فهم لغز المخير والمسير.. وما تسميه أنت تناقضا هو في الحقيقة جلاء ذلك السر.
أما الآيات الواردة عن الحساب فإن كل آية تعنى طائفة مختلفة، فهناك من سوف يسأل وتطلب شهادته، وهناك من ستكون ذنوبه من الكثرة بحيث تطفح على وجهه، وهؤلاء هم الذين سوف يعرفون بسيماهم فيؤخذون بالنواصى والأقدام، وهناك المعاند المنكر الذي سوف تشهد عليه يداه ورجلاه:
” اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون “65- يس

وهناك من سيكون حسيبا على نفسه يعذبها بالندم ويشد وثاقها بالحسرة.. وهو الذي لا يوثق وثاقه أحد.
وهناك أكابر المجرمين الجبارين الذين سوف يكذبون على الله، وهم يواجهونه ويحلفون الكذب وهم في الموقف العظيم:
“يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يجلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون” 18- المجادلة
وهؤلاء هم الذين سوف يسحبون على وجوههم ويوثقون في السلاسل. . وأبو حامد الغزالي يفسر هذه السلاسل بأنها سلاسل الأسباب.
– وما رأيك في كلام القرآن عن العلم الإلهي:
” إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت ” 34- لقمان
يقول القرآن إن الله اختص نفسه بهذاالعلم لا يعلمه غير.:
” وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو” 51- الأنعام
فمابالك الآن بالطبيب الذي يستطيع أن يعلم ما بالأرحام، ويستطيع أن يتنبأ إن كان ذكرا أم أنثى.. وما بالك بالعلماء الذين أنزلوا المطر الصناعي بالأساليب الكيماوية
.
لم يتكلم القرآن عن إنزال المطر وإنما عن إنزال الغيث، وهو المطرالغزير الكثيف الذي ينزل بكميات تكفى لتغيير مصير أمة وإغاثتها ونقلها من حال الجدب إلى حال الخصب والرخاء.. والمطر بهذه الكميات لا يمكن إنزاله بتجربة.
أما علم الله لما في الأرحام فهو علم كلى محيط وليس فقط علما بجنس المولود هل هو ذكر أوأنثى، وإنما علم بمن يكون ذلك المولود وما شأنه وماذا سيفعل في الدنيا، وما تاريخه من يوم يولد إلى يوم يموت: وهو أمر لا يستطيع أن يعلمه طبيب.
– وما حكاية كرسى الله الذي تقولون إنه وسع السموات والأرض.. وعرش الله الذي يحمله ثمانية
.
– إن عقلك يسع السموات والأرض وأنت البشر الذي لا تذكر.. فكيف لا يسعها كرسى الله..
والأرض والشمس والكواكب والنجوم والمجرات محمولة بقوة الله في الفضاء.. فكيف تعجب لحمل عرش..
– وما هو الكرسي وما العرش؟
– قل لي ما الإلكترون أقل لك ما الكرسي؟ قل لي ما الكهرباء؟ قل لي ما الجاذبية؟ قل لي ما الزمان؟ إنك لا تعرف ماهية أي شيء لتسألني ما الكرسي وما العرش؟ إن العالم مملوء بالأسرار وهذه بعض أسراره.
– والنملة التي تكلمت في القرآن وحذرت بقية النمل من قدوم سليمان وجيشه:
” قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده” 18- النمل

لوقرأت القليل عن علم الحشرات الآن لما سألت هذا السؤال.. إن علم الحشرات حافل بدراسات مستفيضة عن لغة النمل ولغة النحل. ولغة النمل الآن حقيقة مؤكدة.. فما كان من الممكن أن تتوزع الوظائف في خلية من مئات الألوف ويتم التنظيم وتنقل الأوامروالتعليمات بين هذا الحشد الحاشد لولا أن هناك لغة للتفاهم، ولا محل للعجب في أن نملة عرفت سليمان.. ألم يعرف الإنسان الله؟
وكيف يمحو الله ما يكتب في لوح قضائه:
“يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب” 38- الرعد
أيخطى ربكم كمانخطى في الحساب فنمحو ونثبت.. أم يراجع نفسه كما نراجع أنفسنا.
– الله يمحوالسيئة بأن يلهمك بالحسنة ويقول في كتابه:
“إن الحسنات يذهبن السيئات” 114- هود
ويقول عن عباده الصالحين:
“وأوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة وإيتاءالزكاة” 73- الأنبياء.
وبذلك يمحو الله دون أن يمحو وهذا سر الآية 39 من سورة الرعد التي ذكرتها.
– وما رأيك في الآية؟
” وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” 56- الذاريات
هل كان الله في حاجة لعبادتنا؟!
– بل نحن المحتاجون لعبادته.
أتعبد المرأة الجميلة حبا بأمر تكليف، أم أنك تلتذ بهذا الحب وتنتشى وتسعد لتذوقك لجمالها؟ كذلك الله وهو الأجمل من كل جميل إذا عرفت جلاله وجماله وقدره عبدته، ووجدت في عبادتك له غاية السعادة والنشوة. إن العبادة عندنا لا تكون إلا عن معرفة.. والله لا يعبد إلا بالعلم.. ومعرفة الله هي ذروة المعارف كلها،ونهاية رحلة طويلة من المعارف تبدأ منذ الميلاد وأول ما يعرف الطفل عند ميلاده هو ثدي أمه، وتلك أول لذة، ثم يتعرف على أمه وأبيه وعائلته ومجتمعه وبيئته، ثم يبدأ في
استغلال هذه البيئة لمنفعته، فإذا هي ثدي آخر كبير يدر عليه الثراء والمغانم والملذات، فهو يخرج من الأرض الذهب والماس، ومن البحر اللآلئ، ومن الزرع الفواكه والثمار، وتلك هي اللذة الثانية في رحلة المعرفة. ثم ينتقل من معرفته لبيئته الارضية ليخرج إلى السموات ويضع رجله على القمر، وبطلق سفائنه إلى المريخ في ملاحة نحو المجهول ليستمتع بلذة أخرى أكبر هي لذة استطلاع الكون، ثم يرجع ذلك الملاح ليسأل نفسه.. ومن أنا الذي عرفت هذا كله.. ليبدأ رحلة معرفة جديدة إلى نفسه.. بهدف معرفة نفسه والتحكم في طاقاتها وإدارتها لصالحه وصالح الآخرين، وتلك لذة أخرى. ثم تكون ذروة المعارف بعد معرفة النفس هي معرفة الرب الذي خلق تلك النفس. وبهذه المعرفة الأخيرة يبلغ الإنسان ذروة السعادات، لأنه يلتقى بالكامل المتعال الأجمل من كل جميل.. تلك هي رحلة العابد على طريق العبادة.. وكلها ورود ومسرات. وإذا كانت في الحياة مشقة، فلأن قاطف الورود لابد أن تدمى يديه الأشواك.. والطامع في ذرى اللانهاية لابد أن يكدح إليها.. ولكن وصول العابد إلى معرفة ربه وانكشاف الغطاء عن عينيه.. ما أروعه. يقول الصوفي لابس الخرقة: “نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلوناعليها بالسيوف ” تلك هي لذة العبادة الحقة.. وهي من نصيب العابد.. ولكن الله في غنى عنها وعن العالمين.. ونحن لا نعبده بأمر تكليف ولكنا نعبده لأننا عرفنا جماله وجلاله.. ونحن لا نجد في عبادته ذلا بل تحررا وكرامة.. تحررا من كل عبوديات الدنيا.. تحررا من الشهوات والغرائز والأطماع والمال.. ونحن نخاف الله فلا نعود نخاف أحدا بعده ولا نعود نعبأ باحد.. خوف الله شجاعة.. وعبادته حرية.. والذل له كرامة.. ومعرفته يقين وتلك هي العبادة..
نحن الذين نجنى أرباحها ومسراتها.. أما الله فهو الغنى عن كل شيء.. إنما خلقنا الله ليعطينا لا ليأخذ منا.. خلقنا ليخلع علينا من كمالاته فهو السميع البصير، وقد أعطانا سمعا وبصرا وهو العليم الخبير، وقد أعطانا العقل لنتزود من علمه، والحواس لنتزود من خبرته وهو يقول لعبده المقرب في الحديث القدسى: “عبد أطعنى أجعلك ربانيا تقول للشيء كن فيكون “..
ألم يفعل هذا لعيسى عليه السلام.. فكان عيسى يحي الموتى بإذنه ويخلق من الطين طيرا بإذنه ويشفى الأعمى والأبرص بإذنه.
العبودية لله إذن هي عكس العبودية في مفهومنا.. فالعبودية في مفهومنا هي أن يأخذ السيد خير العبد، أما العبودية لله فهي على العكس، أن يعطى السيد عبده ما لا خدود له من النعم، ويخلع عليه ما لا نهاية من الكمالات.. فحينما يقول الله:
“وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”56- الذاريات
فمعناها الباطن ما خلقت الجن والإنس إلا لأعطيهم وأمنحهم حبا وخيرا، وكرامة وعزة، وأخلع عليهم ثوب التشريف والخلافة.
فالسيد الرب غنى مستغن عن عبادتنا.. ونحن المحتاجون إلى هذه العبادة والشرف، والمواهب والخيرات التي لا حد لها.
فالله الكريم سمح لنا أن ندخل عليه في أي وقت بلا ميعاد، ونبقى في حضرته ما شئنا وندعوه ما وسعنا.. بمجرد أن نبسط سجادة الصلاة ونقول “الله أكبر” نصبح في حضرته نطلب منه ما نشاء
.
أين هوالملك الذي نستطيع أن ندخل عليه بلا ميعاد و نلبث في حضرته ما نشاء؟!
وفي ذلك يقول مولانا العبد الصالح الشيخ محمد متولي الشعراوي في شعر جميل:
حسب نفسي عزا إنني عبد يحتفي بي بلا مواعيد رب هو في قدسه الأعز ولكن أنا ألقى متى وحين أحب ويقول: أرونى صنعة تعرض على صانعها خمس مرات في اليوم “يقصد الصلوات الخمس ” وتتعرض للتلف وهذه بعض المعاني الباطنة في الآية التي أثارت شكوكك:
“وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”ولو تأملتها لما أثارت فيك إلا الذهول والإعجاب

 

الفصل الرابع عشر

موقـف الـدين من التطــور

قال صاحبي :
– موقفك اليوم سيكون صعباً، فعليك أن تثبت أن خلق الإنسان جاء على طريقة جلا جلا..
أمسك الخالق قطعة طين ثم عجنها في يده ونفخ فيها فإذا بها آدم وهو كلام تخالفك فيه بشدة علوم التطور

التي تقول : إن صاحبك آدم جاء نتيجة سلسلة من الأطوارالحيوانية السابقة، وإنه ليس مقطوع الصلة
بأفراد عائلته من الحيوانات، وإنه والقرود أولاد عمومة يلتقون معاً في سابع جد..
وإن التشابه الأكيد في تفاصيل البنية التشريحية للجميع يدل على أنهم جميعاً أفراد أسرة واحدة.

قلت وأناأستعد لمعركة علمية دسمة :
– دعني أصحح معلوماتك أولا فأقول لك إن الله لم يخلق آدم على طريقة جلا جلا..
ها هنا قطعة طين ننفخ فيها فتكون آدم .. فالقرآن يروي قصة مختلفة تماماً عن خلق آدم، قصة يتم فيه الخلق على مراحل وأطوار وزمن إلهي مديد، والقرآن يقول إن الإنسان لم يخرج من الطين مباشرة، وإنماخرج من سلالة جاءت من الطين : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ } 12/ سورة المؤمنون
وأن الإنسان في البدء لم يكن شيئاً يذكر :
{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا } 1/ سورةالإنسان
وأن خلقه جاء على أطوار..
{مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا . وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } 13/14 سورة نوح
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْلآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ } 11/ سورة الأعراف
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ . فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } 71/72 سورةص
معنى ذلك أن هناك مراحل بدأت بالخلق ثم التصوير .. ثم التسوية ثم النفخ..
“وثم ” بالزمن الإلهي معناها ملايين السنين : { إِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } 47/ سورة الحج
انظر إلى هذه المراحل الزمنية للخلق في سورة السجدة .. يقول الله سبحانه إنه : { وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ.
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ . ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ } 7/ 9 سورةالسجدة.
في البدء كان الطين ، ثم جاءت سلالة من ماء مهين هي البدايات الأولى للإنسان التي لم تكن شيئاً مذكوراً، ثم التسوية والتصوير، ثم نفخ الروح التي بها أصبح للإنسان سمع وبصر وفؤاد .. وأصبح آدم..
فآدم إذن نهاية سلسلة من الأطواروليس بدءاً مطلقاً على طريقة جلا جلا..

{وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } 17/ سورة نوح
هنا عملية إنبات بكل ما في الإنبات من أطوارومراحل وزمن..
ولكن اللغز الحقيقي هو .. ماذا كانت تلك المراحل بالضبط، وماذاكانت تلك الأطوار ؟
هل كل شجرة الحياة من أب واحد..
هي كلها من الطين بحكم التركيب الكيميائي .. وكلها تنتهي بالموت إلى أصلها الترابي .. هذه حقيقة..ولكننا نقصد من كلمة أب شيئاً أكثر من الأصل الطيني..

والسؤال هو هل تولدت من الطين خلية أولى تعددت وأنجبت كل تلك الأنواع والفصائل النباتية
والحيوانية بما في ذلك الإنسان ؟
أم أنه كانت هناك بدايات متعددة..بداية تطورت إلى نباتات، وبداية تطورت إلى فرع من فروع الحيوان،كالإسفنج مثلاً، وبداية أخرى خرج منها فرع آخر كالأسماك، وبداية خرجت منها الزواحف، وبداية خرجت منها الطيور، وبداية خرجت منها الثدييات، وبداية خرج منها الإنسان،
وبذلك يكون للإنسان جد منفصل، ويكون لكل نوع جد خاص به؟

إن التشابه التشريحي للفروع والأنواع والفصائل لا ينفي خروج كل نوع من بداية خاصة،وإنما يدل هذا
التشابه التشريحي في الجميع على وحدة الخالق، وأن صانعها جميعاً واحد، لأنه خلقها جميعاً من خامة واحدة وبأسلوب واحد وبخطة واحدة.. هذه هي النتيجة الحتمية.
ولكن خروجها كلها من أب واحد ليس نتيجة محتمة لتشابهها التشريحي.. فوسائل المواصلات تتشابه فيما بينها العربة والقطار والترام والديزل كلها تقوم على أسس هندسية وتركيبة متشابهة، دالة بذلك على أنهاجميعاً مناختراع العقل البشري .. ولكن هذا لا يمنع أن كل صنف منها جاء من أب مستقل ومن فكرة هندسية مستقلة..
كما أننا لا يصح أن نقول إن عربة اليد تطورت تلقائياً بحكم القوانين الباطنة فيها إلى عربة حنطور، ثم إلى عربة فورد ثم إلى قطار، ثم إلىديزل.

فالواقع غير ذلك .. وهو أن كل طور من هذه الأطوار جاء بطفرة ذهنية في عقل المخترع، وقفزة إبداع في عقل المهندس، لم يخرج نوع من آخر.. مع أن الترتيب الزمني قد يؤيد فكرة خروج نوع من نوع..
ولكن ما حدث كان غير ذلك فكل نوع جاء بطفرة إبداعية من العقل المخترع، وبدأ مستقلاً.
وهذه هي أخطاء داروين والمطبات والثغرات التي وقع فيها حينما صاغ نظريته.

ودعنا نتذكر معاً ما قال داروين في كتابه “أصل الأنواع” :
كان أول ما اكتشفه داروين في أثناء رحلته بالسفينة “بيجل” هي الخطة التشريحية الواحدة التي بنيت عليها كل الفصائل الحيوانية.. فالهيكل العظمي واحد في أغلب الحيوانات الفقرية : الذراع في القرد هو نفس الجناح في الطائر، هو نفس الجناح في الخفاش، كل عظمة هنا تقابلها عظمة تناظرها هناك مع تحورات طفيفة، لتلائم الوظيفة، فالعظام في الطيور رقيقة وخفيفة ومجوفة وهي مغطاة بالريش ..
ثم نجد رقبة الزرافة الطويلة بها سبع فقرات، ورقبة الإنسان سبع فقرات، ورقبة القنفذ التي لا تذكر من فرط قصرها هي الأخرى بها سبع فقرات،وهناك خمس أصابع في يد الإنسان، ونجد نفس التخميس في أصابع القرد،والأرنب،والضفدعة، والسحلية، وفترة الحمل في الحوت والقرد والإنسان تسعة أشهر، وفترة الإرضاع في الجميع سنتان، وفقرات الذيل في القرد نجدها في الإنسان متدامجة ملتصقة فيما يسمى بالعصعص، ونجدعضلات الذيل قد تحورت في الإنسان إلى قاع متين للحوض، ثم نجد القلب بغرفه الأربع في الحصان والحمار والأرنب والحمامة والإنسان،ونفس الخطة في تفرع الشرايين والأوردة، ثم نجد نفس الخطة في الجهازالهضمي : البلعوم ثم المعدة .. ثم “الاثنى عشر” .. ثم الأمعاء الدقيقة .. ثم الأمعاء الغليظة.. ثم الشرج

والجهاز التناسلي : نفس الخصية، والمبيض، وقنوات الخصية، وقنوات المبيض .. وكذلك الجهاز البولي :
نفس الكلية، والحالب، وحويصلة البول.. والجهاز التنفسي : القصبة الهوائية والرئتين، ونجد أن الرئة في البرمائيات هي نفس كيس العوم في السمكة.

كان طبيعياً بعد هذا أن يتصور داروين أن الحيوانات كلها أفراد أسرة واحدة تفرقت بهم البيئات فتكيفت كل فصيلة مع بيئتها..
الحوت في المنطقة الجليدية لبس معطفاً من الشحم .. والدببة لبست الفراء..
وإنسان الغابة في الشمس الاستوائية أسودّ جلده فأصبح كالمظلة الواقية ليقيه الشمس..
وسحالي الكهوف ضمرت عيونها لأنها لا تجد لها فائدة في الظلام فأصبحت عمياء في حين نجدسحالي
البراري مبصرة.. والحيوانات التي نزلت الماء طورت أطرافها إلى زعانف..والتي غزت الجو طورت أطرافها
إلى أجنحة.. وزواحف الأرض طورت أطرافها إلى أرجل.

ثم ألا يحكي الجنين القصة ؟ ففي مرحلة من مراحل نموه نراه يتنفس بالخياشيم ثم تضمر الخياشيم وتظهر فيه الرئتان ، وفي مرحلة نجد له ذيلاً يضمرالذيل ويختفي ، وفي مرحلة نراه يكتسي بالشعر ثم ينحسر بعد ذلكالشعر عن جسمه.

ثم ألا تحكي لنا طبقات الصخور بما حفظت لنا من حفريات قصة متسلسلة الحلقات عن ظهور واختفاء هذه الأنواع الواحد بعد الآخر من الحيوانات البسيطة وحيدة الخلية، إلى عديدة الخلايا، إلى الرخويات،إلى القشريات ، إلى الأسماك ، إلى البرمائيات ، إلى الزواحف ، إلى الطيور ، إلى الثدييات..
وأخيراً إلى الإنسان..
ولقد أصاب داروين وأبدع حينما وضع هذه المقدمة القيمة في التشابه التشريحي بين الحيوانات وأصاب حينما قال بالتطور.

ولكنه أخطأ حينما حاول أن يفسر عملية الارتقاء، وأخطأ حينما حاول أن يتصور مراحل هذا الارتقاء وتفاصيله.
كان تفسير داروين لعملية الارتقاء أنه يتم بالعوامل المادية التلقائية وحدها ، حيث تتقاتل الحيوانات بالناب والمخلب في صراع الحياة الدموي الرهيب فيموت الضعيف ويكون البقاء دائماً للأصلح..

تلك الحرب الناشبة في الطبيعة هي التي تفرز الصالح والقوي وتشجعه .. وتبقي على نسله .. وتفسح أمامه سبل الحياة..
وإذا كانت هذه النظرية تفسر لنا بقاء الأقوى فإنما لا تفسر لنا بقاء الأجمل، فإن الجناح المنقوش لا يمتاز بأي صلاحيات مادية أو معاشية عن الجناح الأبيض، وليس أكفأ منه في الطيران..
وإذا قلنا إن الذكر يفضل الجناح المنقوش، في التزاوج، فسوف نسأل ولماذا؟ .. ما دام هذا النقش لا يمثل أي مزيدمن الكفاءة ؟
وإذا دخل تفضيل الأجمل في الحساب فإن النظرية المادية تنهار من أساسها..
وتبقى النظرية بعد ذلك عاجزة عن تفسير لماذا خرج من عائلة الحمار شيء كالحصان .. ولماذا خرج من عائلة الوعل شيء رقيق مرهف وجميل كالغزال.. مع أنه أقل قوة وأقل احتمالاً .. كيف نفسر جناح الهدهد وريشة الطاووس وموديلات الفراش بألوانها البديعة ونقوشها المذهلة .. ونحن هنا أمام يد مصور فنان يتفنن ويبدع.. ولسنا أمام عملية غليظة كصراع البقاء وحرب المخلب والناب..

والخطأ الثاني في نظرية التطور جاء بعد ذلك من أصحاب نظرية الطفرة..
والطفرات هي الصفات الجديدة المفاجئة التي تظهر في النسل نتيجة تغيرات غير محسوبة
في عملية تزاوج الخلية الأنثوية والخلية الذكرية ولقاء الكروموسومات لتحديد الصفات الوراثية..
وأحياناً تكون هذه الصفات الجديدة صفات ضارة كالمسوخ والتشوهات، وأحياناًتكون طفرات مفيدة للبيئة الجديدة للحيوان كأن تظهر للحيوان الذي ينزل الماء أرجل مبططة .. فتكون صفة جديدة مفيدة..
لأن الأرجل المبططة أنسب للسباحة، فتشجع الطبيعة هذه الصفة وتنقلها إلى الأجيال الجديدة، وتقضي على الصفة القديمة لعدم صلاحيتها، وبذلك يحدث الارتقاء وتتطور الأرجل العادية إلى أرجل غشائية..
وخطأهذه النظرية أنها أقامت التطور على أساس الطفرات والأخطاء العشوائية .. وأسقطت عملية التدبيروالإبداع تماماً..
ولا يمكن أن تصلح هذه الطفرات العشوائية أساساً لما نرى حولنا من دقة وإبداع وإحكام في كل شيء..
إن البعوضة تضع بيضها في المستنقع .. وكل بيضة تأتي إلى الوجود مزودة بكيسين للطفو..
من أين تعلمت البعوضة قوانين أرشميدس لتزود بيضها بهذه الأكياس الطافية ؟
وأشجار الصحارى تنتج بذوراً مجنحة تطير مع الرياح أميالاً وتنتثر في مساحات واسعة بلا حدود..
من أين تعلمت أشجار الصحارى قوانين الحمل الهوائي لتصنع لنفسها هذه البذور المجنحة، التي تطير مئات الأميال بحثاً عن أراض ملائمة للإنبات ؟
وهذه النباتات المفترسة التي تصطنع لنفسها الفخاخ والشراك الخداعية العجيبة لتصيد الحشرات وتهضمها وتأكلها بأي عقل استطاعت أن تصطنع تلك الحيل ؟
نحن هنا أمام عقل كلي يفكرويبتكر لمخلوقاته ويبدع لها أسباب الحيل.. لا يمكن تصور حدوث الارتقاء بدون هذاالعقل المبدع : { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } 50/ سورة طـه.

والعقبة الثالثة أمام نظرية داروين .. هي ما اكتشفناه الآن باسم الخريطة الكروموسومية .. أو خريطة الجينات .. ونحن نعلم الآن أن لكل نوع حيواني خريطة كروموسومية خاصة به، ويستحيل أن يخرج نوع من نوع بسبب اختلاف هذه الخريطة الكروموسومية.

نخلص من هذا إلى أن نظرية داروين تعثرت.. وإذا كان التشابه التشريحي بين الحيوانات حقيقة متفق عليها،وإذا كان التطور أيضاً حقيقة، فإن مراحل هذا التطور وكيفياته ما زالت لغزاً..
هل كانت هناك بدايات مستقلة أم أن بعض الفروع تلتقي عند أصول واحدة ؟
والتطور وارد باللفظ الصريح في القرآن .. كما أن مراحل الخلق والتصوير والتسوية ونفخ الروح واردة..
ولكن لم يستقر العلم على نظرية ثابتة لتلك المراحل بعد .. وإذا عدنا لسورة السجدة التي تحكي عن الله
أنه: { وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ . ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّاتَشْكُرُونَ } 7 / 9 سورة السجدة
فإن معنى الآية صريح في أن البدايات الأولى للإنسان التي جاء منها آدم فيما بعد، وهي تلك التي جاء نسلها من ماء مهين، لم يكن لها سمع ولا أبصار ولا أفئدة..
وإنما جاءت هذه الأبصار والأسماع والأفئدة بعد نفخ الروح وهي آخر مراحل خلق آدم..
هي إذن بدايات أشبه بالحياة الحيوانية المتخلفة : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا } 1/ سورة الإنسان.
هو تفسير لا يختلف كثيراً عن العلوم التي تتحدث عنها .. ولكن نفس الآية قد تعني معنى آخر هو أطوارالجنين داخل الرحم وكيف يتخلق من بدايات لا سمع فيها ولا بصر ثم يأتي نفخ الروح في هذه المضغة في الشهر الرابع فتستوي خلقاً آخر..آيات الخلق إذن متشابهات والقرآن يحمل أكثر من وجه من وجوه التفسير .. والحقيقة بعد هذا ما زالت لغزاً.. ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه كشف الحقيقة .. والسؤال ما زال مفتوحاً للبحث، وكلما جاء به العلم فروض..
وربما كانت أرجح الآراء أن التسوية المذكورة في القرآن { خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ . فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ } 7/8 سورة الانفطار.
كانت تسوية سلالية بشيء أشبه بالهندسة الوراثية وأن الأمر ليس تطوراً كما يقول داروين ولكنه تطويريحدث بتدخل وفعل إلهي لإعداد الحشوة الحية ( وهي في أصل المنشأ من الطين ) لتستقبل نفخة الروح وحلول النفس فيها لتكون آدم..
ثم النفس وحكايتها هي سؤال آخر أكثر ألغازاً..
هل يكون للنفس تصوير في القوالب الطينية فتكون لها تجسدات متعداة وتاريخ وتطور هي الأخرى ؟
أم أنها على حالها من علم الله بها منذ الأزل..
الله أعلم .. والموضوع كله عماء..
وربما كان أفضل فهم لعملية التطور أنها كانت تطويراً بفعل فاعل وبذات مبدعة خلاّقة ولم تكن تطوراً تلقائياً كما تصورها داروين وصحبه ولم تكن مراحل متروكة للصدفة .. وإنما كانت تخليقاً مراداً ومخططاً خالق قادر حكيم.. وإنها هندسة وراثية لمهندس عظيم ليس كمثله شيء..
وما جاء في القرآن هو أصدق صورة لما حدث..
والقطع في هذه القضية مستحيل..
وما زال القرآن يفرض نفسه بلا بديل..

أضف تعليق